“دعه يعمل، دعه يمر”… كان هذا
“دعه يعمل، دعه يمر”…
كان هذا شعار أطلقه الفيلسوف والباحث الاقتصادي الأسكتلندي آدم سميث. شعار فحواه بشكل عام تقليص تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية إلى أضيق ما يمكن بهدف الدفع بعجلة التنمية نحو الإيجاب, و منه تحرير التعاملات والعلاقات الاقتصادية على أوسع نطاق ممكن فتصبح بذلك الأسواق حرة تلقائية تحكم نفسها بنفسها.
مع الوقت, أخذت فكرة تحرير الأسواق في التطور والتأقلم حسب ما جادت به العقول ذات المرجعية الواقعية والأهداف الاستراتيجية والمستقبلية؛ فظهرت مؤسسات و تأسست منظمات فرضتها الضرورة وألحت على وجودها المصلحة. منها: منظمات التمويل الدولية التي لعبت دورا فاعلا في الترويج لفكرة “تحرير الأسواق” كخلطة سحرية لتحقيق النمو وبالتالي الخروج بفئات المجتمع الفقيرة من خنق الأزمات المالية والرفع من قدرتها الشرائية ومن مستويات عيشها على المدى البعيد.
لكن الواقع رصد عكس هذه التبشيرات, إذ أن “خميرة” الوقت مسحت غبار الزيف عن المدسوسات؛ فالتجربة العملية خصوصا للدول المختنقة والمصنفة “متخلفة” اقتصاديا, ومتدهورة اجتماعيا, والتائهة سياسيا, والمدنسة بآثار استعمار الغرب إجماليًا أوضحت زيادة التدهور في توزيع الدخل وارتفاع متزايد للبطالة والتضخم وحدة الفقر ومنه انهيار قيمة العملات الوطنية و”غطس” أسواقها في وحول السلع الترفيهية. وبالتالي توسعت الفجوة الطبقية بين أوساط المجتمعات فعجزت عن خوض غمار المنافسات الإنتاجية وتعثرت المشاريع بها وفرت الاستثمارات الأجنبية وحتى المحلية.
تحررت الأسواق, و توسعت التعاملات الاقتصادية والعلاقات الدولية بشكل عام، ولكن .. على أشلاء الشعوب!
نعم, أفلحت النداءات والدعاية في تحرير الأسواق, لكن الشعوب عرفت قيودا بشكل استمراري لم تعرف له سابقة.
تأسست ميكانيزمات و آليات تهدف إلى تقييم السلع و البضائع، بل وحتى الخدمات، حتى تتم عمليات البيع والشراء بشكل سلس ما أمكن وفي ظرف وجيز ما أمكن بحيث تصل السلعة والخدمة إلى أي نقطة على وجه البسيطة وتسهل بذلك حياة الناس ما أمكن كذلك.. في الوقت الذي تاه الإنسان عن موضعه مكانيًا وعن موقعه أخلاقيًا، ولم يعد يفهم هل هو المشتري للسلعة أم هو السلعة نفسها؟ أما المنتوج المعروض فمن يملكه؟
سلطنت الأسواق, فأصبحت نشوة الملك والامتلاك والتملك حديث صمت وعلن الصغير والكبير, بل ما عاد لمعيار السن معنى: الأبناء يلحون في الطلب بل لا راحة لهم إلا في امتلاك ما لمحت العين و اشتهت النفس، والآباء لا يهنأون إلا عند تكميم أفواه أبنائهم بالمطلوب والمرغوب فيه.. خلاصهم في الاستجابة لإلحاحات أبنائهم, هؤلاء الذين بدورهم يخضعون لإكراهات الشارع والمؤسسات التعليمية والتكنولوجية الحديثة.. كل شئ أصبحت تحكمه موضى.. و أي موضى! و كل شئ يسير حسب تعليمات المسيرين الحقيقيين للعالم: ملاك كبرى الشركات العابرة للقارات التي لا تعترف بأي صنف من القيود أو الخطوط الحمراء, ماضية في ” التهام ” كل ما يمكن أن يعرقل مسيرتها الربحية غير آبهة لا بأخلاقيات ولا بمرجعيات ولا بصرخات الرشد, منصرفة إلى حسابات الربح و الخسارة ولغة الأسعار ومؤشرات القيم والأسهم والأرقام وفرص الكسب ومواطن ضخ الأموال!
السوق, وحرية السوق ولو على حساب نقاء النفس البشرية والنبرة الفطرية.
” تشيأ ” الناس, فأصبحت علاقاتهم مع أنفسهم و ذويهم تحكمها الأشياء وكمها ونوعها. ظهرت أساليب حياة تحكمها السرعة, وأنماط عيش جديدة لا تكترث بكائن الطبيعة الذي خلقنا معه وفيه إذ تستحيل حياتنا دون وجوده. هذه هي “حضارة ” السرعة والاستهلاك والنفعية والأنانية, أنانية الشخص بنفسه ضد غيره ثم بأهله على حساب مجتمعه, فبقبليته ضد الآخرين المختلفين عنه فمنتصرًا لعصبيته بدولته وهكذا تواليا في عوالم انتماءاته.
تاهت بوصلة الشعوب الأخلاقية والمرجعية, فكانت غربة أهل الصلاح والزهد -في دنيا اللهث نحو إشباع الرغبات- عما يجول بخواطرهم وما تنطقه مراجعهم, فاحتدمت الصراعات بين دواخلهم من جهة والواقع الذي يعيشونه من جهة أخرى سائرين تارة على يمين درب السؤال وأخرى على شماله, أي في تذبذب بين التفاؤل و اليأس: كيف يمكن دفع ما بالداخل من رؤى و آمال الخلاص و تحقيقه خارجا؟
إنه زمن العولمة, زمن تحرير الأسواق والتعاملات الاقتصادية, زمن عرفت فيه العلاقات الدولية تجاذبات في أوجها, زمن التنظير لآليات الحرية ودعوات التحرر بشكل نتيجته القيد والأسر والسلب والنهب, زمن بحت الأصوات انتصارًا لأخلاقيات الإنسان ومنادية بأحقية الناس في حياة كريمة بشكل نتيجته النسف وتصفية الروح. هو زمن تناقضات كثيرة وتحديات مختلطة تستلزم عودة كل “جندي” إلى ثكنته, بمعنى كل متخصص إلى تخصصه إذ يسمع الآخرين صمته ويلجم نزوات اجتهاده إلا للضرورة الملحة. هو زمن ما عادت للوسائل ولا للآليات العتيقة وقع مباشر عميق في نفوس مكلومة مصدومة محطمة نفسيا وثقافيا وفكريا. و لا مجال للحلول السهلة الجاهزة لا في التراث ولا عند الغرب, كلها -إن استعملت كما هي- أفكار و محركات أكل الدهر عليها و شرب, اللهم إن أخذت باجتهاد وجد ورغبة صادقة عميقة في التجديد مع الخلق!
هذا هو الحال, ممزق شر تمزيق, لكنه واقع ليس حتميًا. شفاؤه في إعادة البناء, سواءا ابتداءا بالنفس, فاللبنة الأولى في المجتمع أي الأسرة, فالمحيط و هكذا … أو حتى ابتداءا بتطبيق أنظمة إصلاحية تنطلق من منظور شمولي يجعل الفرد يتأقلم مع السياق العام ذي الوجهة الموزونة الرشيدة فيتصلح, و هنا يمكن أن نلتفت لمثال أبناء البلدان “المتخلفة” عندما يستقرون ببلاد المهجر الغربية المتقدمة, فإنهم في غالب الأحيان ما ينساقون مع النظام العام والجاري به العمل, فيكتسبون من سلوك الشعوب هناك فيما يخص قيم المواطنة والتعاملات في أوساط المجتمع المتقدم كرد فعل طبيعي لما يحيط بهم من قوانين وأجهزة تحكم العلاقات العامة والخاصة وترمي إلى إحقاق العدالة الاجتماعية في إطار تعاقد تشاركي هدفه المجتمع القوي البناء المتماسك.
إن التحدي في بناء المجتمع إذن يكمن بالأساس في تأسيس رؤية صحية للحريات و الحقوق و الواجبات و كل المساحات على جميع الأصعدة تحترم الإنسان وتحترم خصوصياته بما فيها الدينية والروحية والاجتماعية في الوقت نفسه.
من منظور دقيق فإن رهان المرحلة المقبلة يكمن في وجود منظومة متكاملة من حيث النظرية والتطبيق تهم الفرد كما المجتمع هادفة بشكل قصدي واقعي إلى تقبل كل أطياف المجتمع, بمعنى مشروع قائم بذاته يحتوي على أفضل الصيغ لاحترام كل الحضارات والثقافات ولخلق التفاعل التام المتكافىء بينها دون إلغاء أي منها .. بحكم أن لكل رؤية قدر من الصواب, و فيه العدل الاجتماعي ضمانة التعايش الوحيدة ورهان الدعامة الأولى للإستقرار.